المهاجرون.. والتغطيات الإعلامية الظالمة
المهاجرون.. والتغطيات الإعلامية الظالمة
تتبدَّى صورة اللاجئين والمهاجرين في مرايا الإعلام، بوسائله المتعددة، كخطوط مكسورة لا تكتمل، وكأن السرديات المصنوعة سلفاً تُمسك بالقلم قبل أن ينطق الواقع. فكلما اندلعت أزمة، أو احتدمت منافسة سياسية، تسابقت بعض وسائل الإعلام في تشكيل «حالة» نفسية للرأي العام، تتجسد في عناوين تُغري بالخوف، وصور تُراكم الوجوه في طوابير لا أسماء لها، ومفردات تُشَيِّئ البشر، وتحيلهم إلى «جحافل» و«موجات» و«أرقام».
وليس هذا الانحراف محض انطباع ذاتي؛ فقد راكمت دراسات علمية حديثة أدلة ملموسة على أن التغطية الإخبارية في دولٍ غربية متقدمة، ودولٍ عربية أيضاً، تميل في كثير من الأحيان إلى التحيز ضد المهاجرين، فتُعلي من «إطار الأزمة»، وتُهمِّش صوت أصحاب الشأن، فتتحول الصحافة من شاهد على الحقيقة إلى مُتلاعب بها ومقايض عليها.
وعلى سبيل المثال: ظهرت نتائج دراسة علمية، أجراها فريق من جامعة «ماكروميديا» الألمانية، في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، لتفيد بأن ذِكر أسماء وهوية «المُشتبه بهم» من المهاجرين في بعض الحوادث، عبر تغطيات وسائل الإعلام، تزيد ثلاث مرات عن نسبتهم في إحصاءات الشرطة، وهو أمر لم يكن موجوداً في دراسة مماثلة أُجريَت في عام 2014.
وفي المشهد الإعلامي الأوروبي عموماً، لا تكاد كلمة «الهجرة غير النظامية» تُذكَر حتى تنهض معها ثلاثية مُضلِّلة: مواطن «مُحاصَر»، وأمن «مُهدَّد»، ونظام «مُنهَك»، والأمر نفسه ينطبق على بعض الإعلام الأميركي؛ خصوصاً في ظل الموقف السياسي لإدارة الرئيس ترمب إزاء موضوع الهجرة.
وقد وثَّقت بحوث علمية في المملكة المتحدة كيف يُعاد بناء مفهوم «الهجرة غير النظامية» عبر اللغة والصور والانتقاء غير الموضوعي، بحيث يغدو المهاجر محوراً لسردية أزمة دائمة. وتُبيِّن هذه القراءات أن الخطاب العام -سياسياً وإعلامياً- ينزع إلى إحصاء الأشخاص على حساب تعريفهم إنسانياً، وإلى استدعاء قاموس الطوارئ على حساب الإنصات لتجارب فردية ملموسة.
ومع أن الصحافة مسؤولة عن التنبيه للمخاطر والسياسات المعيبة، فإن تحويل الحكاية الإنسانية إلى معادلة أمنية صِرف، يُنتج ميلاً بنيوياً إلى نزع إنسانية الفئات الأضعف، ويُغلِّب زاوية «الإدارة والسيطرة» على زاوية «الحقوق والكرامة».
وفي الولايات المتحدة، يضيف الإعلام الترفيهي ممارسة حادة لا تقل تأثيراً في هذا الإطار. فحين تحضر شخصية المُهاجر على الشاشة مُقترنة بالجريمة أو «اللاشرعية»، فإن الصورة النمطية تصبح أكثر إيحاءً من أي بيان سياسي. وقد بيَّنت بحوث في صناعة التلفزيون أن نسبة مُعتبرة من الشخصيات المُهاجرة في الأعمال الدرامية ترتبط بالجريمة، وأن تمثيل «المهاجرين غير النظاميين» مُفرِطٌ قياساً بواقع السكان. هذا التحيز البصري/ السردي يخلق دائرة مفرغة، ويُغذي المخاوف العامة، فتستجيب السياسة بخطاب أكثر قسوة، فتعود وسائل الإعلام لتضخيمه طلباً للانتباه، فيشتد ظُلم السردية... وهكذا دواليك.
أما في المجال العربي، فصورة اللاجئ والمهاجر ليست أقل تعقيداً، ولا أقل تعرضاً للتسييس، في بعض الأحيان. ففي عدد من الدول العربية، رصدت دراسات أكاديمية أن تغطية اللجوء كثيراً ما تُؤطر المهاجرين واللاجئين والنازحين بسبب الحروب، وغيرهم، بوصفهم عبئاً اقتصادياً وأمنياً، وأحياناً أخلاقياً، وتُشبِع المُتلقي بتصنيفات جماعية، وتعميمات تُقصي الفروق الدقيقة، وتقل فيها المساحات التي يروي فيها اللاجئ قصته بنفسه.
كيف تُولد هذه الانحيازات؟ أول الأسباب هو الحوافز السياسية: فالهجرة مادة انتخابية «مضمونة» في الديمقراطيات، و«ورقة فعالة» في غيرها؛ وهي تُغري كلاً من الجانبين بتسليط الضوء والتأطير المُتشدد. وثانيها يتعلق بالنزعة التجارية في وسائل الإعلام؛ إذ تكافئ المنصات الرقمية الإثارة والفزع، فتدفع غرف الأخبار إلى العناوين الحادة والصور الصادمة، وتُقصي السرديات الهادئة والمُعتدلة. وثالثها يتجسد في ضيق تنوع غرف الأخبار؛ فحين يغيب الصحافيون من خلفيات مهاجرة، أو أصحاب الخبرات العميقة عن صناعة القرار التحريري، تتسع فجوة الفهم، وتُستَسهل القوالب. ورابعها الكسل المفاهيمي الذي يؤدي إلى استخدام ألفاظ تُجرِّم الهويات؛ مثل «غير الشرعيين»، على حساب توصيف الأفعال أو الحالات القانونية، وتقديم الأرقام دون مقارنات موضوعية تضعها في إطارها الواقعي.
واستناداً إلى ذلك، يمكن اقتراح مسارات عملية للإعلام لتحسين مُقاربة موضوع المهاجرين واللاجئين إعلامياً.
وبداية: على غرف الأخبار أن تُحدِّث أدلتها التحريرية، لتُزيل المفردات المُجرِّمة للهويات، وتُلزم بإقران أي رقم بسياقه ونسبته ومصادره، وتُضاعِف مساحات «قصص الحلول» لا «قصص الترويع»، وعليها -ثانياً- الاستثمار في التنوع، وتدريب الصحفيين على حساسية المصطلح والصورة في قضايا العِرق والأصل والهوية.
وعلى المنصات الرقمية التي باتت تُهيمن على الجانب الأكبر من مجالنا الاتصالي، أن تُرسي قواعد واضحة ومُلزمة، لتقييد المنشورات والحسابات التي تستخدم خطابات الكراهية والتمييز والتحريض على العنف، على أن يتم ذلك بحذر وعدالة وصرامة في آن واحد.
نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط











